قول
ابن خلدون في المقدمة و بالتحديد في الفصل الثالث و الأربعون الذي عنوانه «
في أن الظلم مؤذن بخراب العمران » : « جباة الأموال بغير حقها ظلمة و
المعتدون عليها ظلمة و المنتهبون لها ظلمة و المانعون لحقوق الناس ظلمة و
خصاب الأملاك على العموم ظلمة و وبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب
العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله و اعلم أن هذه هي الحكمة
المقصودة للشارع في تحريم الظلم وهو ما ينشا عنه من فساد العمران و خرابه و
ذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع
مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين و النفس و العقل و النسل و
المال...» .
و
من خلال هذا القول يقدم لنا العلامة ابن خلدون درسا في أسباب خراب الدول و
أسباب اعمارها ، فالظلم بأشكاله المختلفة من نهب للأموال و تطاول على
عامة الناس و مصادرة حقوقهم و أملاكهم ، سببا رئيسيا لتهاوي اقتصاديات
الدول. كما أن التخلي عن شرع الله هو شكل من أشكال الظلم للبشرية و عائق
من عوائق العدل فالملك لا يتم عزه إلا بالشريعة و القيام لله بطاعته و
التصرف تحت أمره و نهيه. و في ذلك حكمة لا متناهية للأحزاب التي تسعى
اليوم إلى الوصول إلى السلطة بأي طريقة كانت و تتبنى قضايا العدل و مكافحة
الظلم في برامجها دون الحديث عن أسلمة المؤسسات المالية و الإدارات
العمومية فالعدل لا يوجد إلا في شرع الله و سنة رسوله صلى الله عليه و
سلم. فلا تنفع ازدواجية الخطاب التي تدعي الإصلاح بالشرع و تستهوي مشاعر
المسلمين من ناحية و تعطي الناس الحق في ممارسة ما حرم الله من ناحية أخرى
باسم المدنية. و سنحاول توضيح الرابط بين المدني و الديني من خلال فكر
ابن خلدون العلامة الزيتوني.
فالإسلام من خلال فكر ابن خلدون لا يتعارض مع مفهوم الدولة المدنية التي
تكون فيها السيادة للقانون و الإرادة للشعب ، و في هذا الإطار يقول ابن
خلدون رحمه الله : « فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء و أكابر
الدولة و بصرائها كانت سياسة عقلية، و إذا كانت مفروضة من الله بشارع
يقررها و يشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا و الآخرة» و
بذلك يكون قد فرق بين السياسة الدينية و السياسة العقلية الأشبه بما يسمى
اليوم الدولة المدنية لكن دون ازدواجية الخطاب أو تغليب شكل من أشكال
الدولة على آخر. و يقدم رحمه الله مفهومه الخاص للملك و السلطة و ذلك
بالتفريق بين الدولة المستبدة الدكتاتورية و الدولة المدنية التي تسودها
الحريات العامة و حقوق المواطنة دون تجاوز لحدود الله وشريعته فيقول :« إن
الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض و الشهوة، و السياسي هو حمل
الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية و الدنيوية الراجعة
إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة،
فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين و سياسة الدنيا به» و
لكن نلاحظ هنا أن ابن خلدون يقدم لنا أيضا شروطا لبناء دولة إسلامية تقوم
على حمل الناس على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الدنيوية و الأخروية ،
وفي ذلك تأكيد مرة أخرى على إمكانية تأسيس دولة مدنية تكون فيها الشريعة
مصدرا أساسيا للقوانين و الحريات دون فصل بين الدين و الدولة . و الحرية في
رأيي هي فعل كل ما تسمح به الشريعة الإسلامية. و نحن اليوم في تونس نحتاج
إلى بناء دولة على هذا النمط تقوم على إقامة العدل في القضاء و العمل
لتصلح بذلك أحوال الرعية و تأخذ الناس حقوقهم و تتحسن المعيشة و يؤدى حق
الطاعة... و يعم الرفق بالرعية و ينبذ العنف و التطرف و يقع تجريم
الاعتداء سواءا بالعنف اللفظي أو المادي ... و تلك المبادئ من مقاصد
الشريعة الإسلامية . و يتحول في هذه الدولة شعار « العدل أساس العمران
البشري» إلى حقيقة واقعة ، وهو شعار رفعه حزب العدل و التنمية التونسي
خلال حملته الإنتخابية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق